زعيم الأمه "مصطفى النحاس" باشا

مصطفى النحاس باشاالاسم كاملا:مصطفى النحاس سليمان سكر (1879 - 1965) أحد أبرز السياسيين المصريين قبل ثورة 23 يوليو، تولى منصب رئيس وزراء مصر أعوام 1928، 1930، بين 1936 و 1937 ، بين 1942 و 1944 و أخيرا بين 1950 و 1952. قام بالمساهمة في إنشاء حزب الوفد وقاد الكفاح الوطني ضد الاستعمار الانجليزى فبعد ان وقع معاهدة 1936 مع الانجليز لصيانة حقوق مصر قام هو نفسه بألغائها سنة 1951 بعدما استنفدت اغراضها ليعلن الكفاح المسلح ضد الانجليز في قواعدهم بقناة السويس .غير ان حريق القاهرة (26 يناير 1952 ) كان قد انهى هذه الحقبة النضالية في تاريخ مصر و تولى منصب رئيس حزب الوفد منذ 1927 و حتى 1952 عندما تم إلغاء الأحزاب. تم عزله سياسيا بعد حل الاحزاب سنة 1953 وقضى بقية حياته يعانى من جحود شديد من ضباط يوليو إلى ان توفاه الله سنة 1965 وشارك الألاف في جنازته الا ان نظام الرئيس عبد الناصر اعتقل الكثيرين من هؤلاء الذين شاركوا في جنازة الراحل العظيم .


=======================


عاش زعيماً ومات كريماً


لا يعرف سجل الدراسات التاريخية زعيماً لقى من الجحود فى الحياة وفى الممات مثلما لقى مصطفى النحاس. فعندما بحثت عن الكتب التى تؤرخ حياته وجهاده: لم أجد سوى بضع كتب يقل عددها عن عدد أصابع اليد الواحدة، ومنها هذا الكتاب الذى بين يدىّ القارىء، ولا أجد تفسيرا لهذا النقص إلا بأنه غفلة وتقصير فى حق زعيم شغل الحياة السياسية المصرية على امتداد نصف القرن العشرين، وآلت إليه زعامة الأمة بعد رحيل سعد زغلول، فحمل الأمانة من بعده فكان نعم الأمين، ولقى من العنت واظلم والاضطهاد ما تنوء عن حمله الجبال، فلم يضعف، ولم تلن له قناة، وظل صامداً شامخاً فى وجه البغى والطغيان، لا تهزه طعنات من خنجر مسموم، ولا تفزعه رصاصات تنهال عليه أكثر من مرة، ولا تنال منه حملات التلويث الدنيئة، وإنما يواجه كل ذلك بروح الصابر الذى يؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطاه لم يكن ليصيبه، وأن عناية الله أعظم وأجلّ من كيد الكائدين.كنا نسمع عن السيارة الملوغمة التى تفجرت تحت غرفة نومه فى جاردن سيتى، وكيف تناثرت شظاياها حتى أن رفرف السيارة اخترق النافذة كالصاروخ، وتعلّق فى الناموسية المدلاة فوق سريره، ولكن الناموسية المصنوعة من نسيج هش لمقاومة الناموس، تحولت بقدرة الله إلى سياج من فولاذ حفظ حياة الزعيم من السوء، ولا تزال ذاكرتى تحفظ صورة الزعيم المنشورة فى مجلة «المصور» وهو واقف فى وسط الغرفة يتطلع فى دهشة إلى الرفرف المعلق فى الناموسية، وهو يردد قول الله عزل وجل: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا».كان حبل مصطفى النحاس موصولاً بالله منذ كان صبياً جاء به أبوه من سمنود إلى القاهرة ليلتحق بإحدى مدارسها، فكان أول ما فعله الأب العابد أن ساق وليده إلى مقام الحسين ليستودعه إياه، على عادة الآباء الصالحين فى ذلك العصر حين يضعون فلذات أكبادهم وديعة لدى أهل بيت الرسول، ليكونوا فى مأمن من شرور النفس، وظل مصطفى النحاس أميناً على تلك الصلة الروحية التى تربطه بحفيد الرسول وعترته الطاهرة، بقطع المسافة من بيته فى مصر الجديدة سيراً على الأقدام إلى مقام الحسين كل يوم جمعة حتى بعد أن صار زعيماً مشهوراً، ولعله استوحى من الحسين جهاده النبيل فى سبيل الحق والعدل، مثلما تأثر به فى خلقه وسجاياه، فلم يقارف خطيئة، ولم يرتكب منكراً، فكان من الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. لقد بدأ مصطفى النحاس جهاده السياسى مع فجر الثورة، فاستقال من القضاء واحترف المحاماة، ونذر نفسه للكفاح الوطنى لصيقاً بزعيم الثورة، ورفيقاً له فى داخل الوطن، أو فى منفاه إلى سيشل، أو فى المعارك الشرسة من أجل الاستقلال والدستور، فلما حل محله فى دست الزعامة التفت الأمة حول مصطفى النحاس كما كانت أيام سعد. ووضعت فيه ثقتها، لأن الأمم ـ كما يقول شفيق غربال ـ بطبعها تحس بمن يحبها فتستجيب له، وتلقى بثقتها بين يديه، وتشعر بمن لا يحبها الحب الصادق فتنأى عنه. ولقد عرفت الحياة السياسية المصرية فى ذلك العصر زعماء وساسة أصحاب جاه وهيلمان. ولكن أحداً منهم لم يرتفع إلى قامة مصطفى النحاس من حيث حبه للشعب، وإيمانه بالديمقراطية إيماناً ملك عليه لبه وفؤاده، وسيطر على فكره وسلوكه لدرجة يصعب معها الفصل بين أفكاره النظرية، وممارساته العملية، كان المصريون يجدون زعماء يتغنون بالديمقراطية ما دامت الديمقراطية تعود عليهم بالنفع، ويتغزلون فى عظمة الشعب بشرط أن يدفع بهم إلى مقاعد الحكم، فإذا لم يفعل انقلبوا عليه واتهموه بالجهل والقصور، وطالبوا بفرض الوصاية عليه حتى ينضج. أما مفهوم الديمقراطية عند مصطفى النحاس فكان بسيطاً خالياً من التعقيد والفلسفة، إنه يعنى الاحتكام إلى الشعب، واحترام إرادته، وتقديس مبادىء الدستور التى تنظم السلطات العامة، وتنص على أن الأمة ـ وليس الملك ـ مصدر السلطات، وكان الخروج على الدستور أو انتهاك أحكامه، كبيرة الكبائر التى لا تغتفر عند مصطفى النحاس، ولذلك انت حياته سلسة من المعارك والحروب مع أعداء الدستور وأذناب القصر، ودعاة الحكم المطلق، وكل القوى الرجعية والفاشية التى أرادت أن تجعل من الدستور مجرد ديكور مستورد من بلاد الفرنجة، يرضي أحلام المثقفين المفتونين بنظم الحكم الغربية، ولكنه يعنى فى النهاية، استمرار الحكم الأتوقراطى الموروث عن عصر الأغوات. وكانت تلك عقيدته عندما قيل له إن الجيش بصدد إعداد انقلاب للإطاحة بالنظام القائم.. فكان رأيه أن مهمة الجيش، ليس الحكم، ولكن الزود عن حياض الوطن. فإذا استولى على الحكم فقل سلاماً على الديمقراطية، والدستور(!!) ولقد دفع مصطفى النحاس ـ ومعه النظام الديمقراطى ـ ثمن هذا الإيمان المطلق بالنظام الدستورى. وعاش السنوات المتبقية من حياته فى ظل سياسة التعتيم والتجاهل، على أمل أن ينسى الناس زعيمهم الشعبى. فلما لبى نداء ربه فى 23 أغسطس 1965 خرجت الجماهير من مكانها تصرخ: عشت زعيماً.. ومت كريماً..إن الحديث عن مصطفى النحاس لا تكفى فيه هذه السطور المعدودة التى أقدم بها كتاب الأستاذ عباس، ولا أنسى أن أذكر أن النسخة التى اقتبسنا منها هذه الصفحات هى من مقتنيات أخى وصديقى الأستاذ عبدالعزيز محمد القطب الوفدى والمحامى القدير، أهدانى إياها منذ عشر سنوات، فله الشكر، وظلت النسخة تحتل مكان الصدارة فى مكتبتى حتى حان الوقت لإعادة طبع القسم الخاص بحياة الزعيم مصطفى النحاس فى سلسلة (كتاب الوفد).وكل ما أتمناه على الله أن يمنحنى من العزم ما يساعدنى على تأليف كتاب آخر عن الزعيم الجليل يسد النقص الفاضح فى عدد المؤلفات التى تناولت حياته، وليكون باقة عطر نبعث بها إلى روحه الطاهرة فى الملأ الأعلى من أبناء جيلى الذين لم يسعدهم القدر برؤيته أو صحبته، ولكنهم استمدوا منه القدوة والمثل فى النزاهة والتجرد والشجاعة والإقدام.جمال بدوىأغسطس 2001مصطفى النحاس نشأته وتكوينه مولده كان سعد من أهل الريف، وجاء مصطفى كذلك منه، بل من الإقليم ذاته، ولم يكن بين مولد سعد ومنبت مصطفى غير مسافة قصيرة، وأميال معدودة؛ وكلا المنبتين طيب، خصيب فى الزرع، والحرث والنسل معًا، حتى ليعدّ أخصب أقاليم مصر على الجملة منابت، وأكثرها فى النوابغ مَعَدِّا، وأغناها بالمشهورين والأذكياء ثراء.من مديرية الغربية كان مجىء الزعيمين، كأنما أريد لهذا الإقليم أن يفخر بما ندر أن يتهيأ لإقليم سواه، وإن كانت أقاليم مصر فى المنابت والموالد والمساقط أجوادًا طيبة كرائم. ولم يكن الناس يعرفون مولد سعد على التحقيق، أيام حياته، فقد شغلتهم عظمته عن كل شىء خارج عن دائر نفسه ونطاق بطولته. ولكنهم عرفوا حين مرتحله من هذا العالم «القرية» الصغيرة التى كانت أول ما شهد فيه نور هذه الحياة، فاشتهرت من ذلك الحين، وترددت على الشفاء، وقام لها فى الناس ذكر كريم. ولكن مولد مصطفى عُرف من نبوغه، واشتهر معه من كثرة اختلافه إليه، وبره به، ومزاره فى كل عام. وجعل الناس إذا ذكروا المنبت الذى أنبته، أقروا له شهرته، وارتضوا له إنجابه، لم يعجبوا له أن يكون للزعامة منبتًا.وبين القرية التى ولد سعد فيها، والبندر الذى جاء مصطفى منه ـ مع التماثل فى الإقليم، والتشابه فى التربة، والجوار فى الجو والأفق ـ وجه شبه آخر فى التاريخ، يردهما إلى عصور فيه زاهرة، وقرون فيه حفلت بالعظائم واشتهرت بأعجب الحضارة؛ وهى عصور الفراعنة، وبداية مصر القديمة ذات المجد العظيم.أما إِبْيَانَهْ، موطن سعد، فكانت فى أيام الفراعنة من جملة بحر الروم، البحر الأبيض المتوسط ـ فلما انحسرت أمواجه عنها، بسبب «طمى» النيل، ارتفع نشز من الأرض أو يَفَاعٌ فى البحر أنشئت فوقه تلك القرية. وكانت أرشها تصل إلى بحيرة البرلس، كما كانت يومئذ تابعة لمدينة «فوه» كشأنها الآن. وكانت فوه تعرف يومئذ بمدينة «متليس»، وظلت تنمو وتزدهر حتى اشتهرت فى القرن الخامس عشر للميلاد وأصبحت أعظم مدينة في مصر بعد القاهرة، حتى لقد اتخذت مستقرًا للقناصل الأفرنج بعد الفتح العثمانى.مدينة فوه القديمة ويرجع نسب أهل هذه النواحى إلى «المليذيين» الذين نزحوا إلى مصر فى القرن السابع قبل الميلاد على ظهور السفن فى عهد «ابسماتيك»، وهم الذين أسسوا مدينة «فوه» ـ أو متليس كما أسلفنا عليك ـ وقد دخلوا في دين المصريين وصاهروهم واندمجوا فيهم بعدما أقاموا زمنًا مستمسكين بديانتهم، متأبين النزول عن قوميتهم. وقد استعان فرعون بهم، فأعانوا، وذلك فى رواية المؤرخ المشهور «استرابون»، حتى إن من يتأمل وجوه أهل هذا الإقليم وسكانه، بخاصة شَعْرهم ولونه، لا يشك فى أنهم من سلالة أولئك النازحين النازلين.وتقع «منية المرشدة» شمال شرق «إبيانه»، وقد زارها ابن بطوطة الرحالة المشهور حين قدم إلى هذه البلاد من «طنجة» فى أوائل القرن الثامن من الهجرة. وتقوم إلى اليوم فى الجنوب الشرقى من إبيانه، مهبط سعد، تلال قديمة وآكام وربى عالية.سمنود وكذلك كانت «سمنود» معروفة فى عصور الفراعنة، وكانت تُدعى قديمًا «جَمنوت» ـ وهى قريبة فى الغُنَّة من سمنود ـ كما كانت تسمى أيضًا فى التواريخ القديمة «سبنيت»، وقد ذكر العلاقة المؤرخ مارييت أن فراعنة الأسرة الثلاثين كانوا من سمنود. وكان جلوس أول ملك من ملوكها على السرير قبل ميلاد المسيح بثلاثمائة وثمان وسبعين سنة. وفى أواخر زمن فراعنتها استولت الفرس على مصر للمرة الثانية، فأقاموا بها بضع سنين حتى جلاهم الإسكندر الأكبر عنها، وانتزع الملك من أيدى الفراعنة الأصليين.وكانت سمنود مولد المؤرخ «مانيتون» الذى نقل عنه الرومان ما نقلوه من تاريخ قدماء المصريين. وقد روى المقريزى فى خططه أن سمنود كانت فى مصدر الإسلام من المنازل التى ينزلها العرب لربيع خيولهم. فكان إذا جاء الربيع كتب عمرو بن العاص لقبائل العرب بربيعهم حيث أحبوا، فكانت القرى التى يختارها أكثرهم هى، منوف، وسمنود، وإهناس، وطحا. وكان عمرو يقول للناس إذا قفلوا من غزوهم «إنه قد حضر الربيعُ. فمن أحَبَّ منكم أن يخرج بفرسه يربعه، فليفعل. ولا أعلمنّ ما جاء أحدكم قد أسمنَ نفسهَ، وأهزلَ فرسهَ. فإذا حَمَض اللبنُ، وكثر الذبابُ، ولوَى العددُ، فارجعوا إلى فُسْطَاطِكم».الوصاة بالاقباط وروى عن عمرو بن العاص أنه خطب الناس يومًا فقال:«يا معشر الناس: إياكم وخللاً أربعًا، فإنها تدعو إلى النَصب بعد الراحة وإلى الضيق بعد السَّعة، وإلى الذلة، بعد العزة. إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضيع المال، والقيل بعد القال، فى غير درك ولا نوال. ثم إنه لابد من فراغ يؤول إليه المرء فى توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها. ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل. ولا يضيع المرء فى فراغه نصيب العلم من نفسه، فيجوز من الخير عاطلا، وعن حلاله وحرامه غافلا، يا معشر الناس: إنه قد تدلت الجوازاء، ونزلت الشعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقل الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السخائل، وعلى الراعى بحسن رعيته، حسن النظر. فحى لكم على بركة الله تعالى. إلى ريفكم، تناولوا من خيره ولبنه، وخرافه وصيده، وأربعوا خليلكم، وأسمنوها، وصونوها، وأكرموها؛ فإنها جنتكم من عدوكم، وبها مغانمكم وأنفساكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرًا. وقد حدثنى عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدى مصر، فاستوصوا بقبطها خيرًا، فإن لهم فيكم صهرًا وذمة» فكفوا أيديكم، وعفوا فروجكم، وغضوا أبصاركم. ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه، وأهزل فرسه. واعلموا أنى معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة، حططته من فريضته، قدر ذلك. واعلموا أنكم فى رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، وتشوف قلوبهم إليكم، وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية. فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتعوا فى ريفكم ما طاب لكم. فإذا يبس العودة، وسخن الماء، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوح البقل، وانقطع الورد من الشجر، فحى إلى فسطاطكم، على بركة الله. ولا يقدمن أحد منكم، ذو عيال، إلا ومعه تحفة لعياله، على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولى ها وأستحفظ الله عليكم».مساجد سمنود ومعالمها وفى سمنود مساجد كثيرة قديمة العهد؛ كانت كلما تهدمت، رممت وأصلحت. وفى جهتها القبلية ـ كما روى فى الخطط التوفيقية ـ وابور لورثة البدراوى بك أنشىء لحلج القطن وسقى المزورعات، ولكنه أزيل اليوم وأقيمت فى موضعه المدرسة الابتدائية التى أنشأها من قبل وقف البدراوى، وضمن الآن إلى وزارة المعارف عقب قيام مصطفى النحاس باشا أخيرًا بالنظارة عليه. وكانت فى الجهة القبلية من المدينة أيضا «ورشة» قماش لورثة البدراوى، فأصبح موضعها اليوم فناء للمدرسة، ومضيفة للوقف لايواء النازلين، ومثوى للطارئين وقرى للطاعمين. وثم كذلك «وابور» كان لرجل من الانجليز يدعى مستر ماجور فى الجهة البحرية ولكنه آل بعد ذلك إلى رجل فرنسى يدعى مسيو فوميه من تجار الأقطان، واستحال أخيرًا إلى أنقاض دارسة. وفى تلك الجهة أيضًا دار أنشأها عبدالعال بك، مشرفة على البحر، ذات سياج من حديد ورصيف؛ وقد رتب صاحبها قراءة القرآن فيها كل ليلة. وهذه الدار قائمة إلى اليوم كما كانت فى عهد منشئها الأول، ولكنها أصبحت وقفًا وقد أجرى عليها الواقف مالاً لقراءة القرآن وإقامة الأذكار، وهى اليوم مقابلة تمامًا لدار أسرة الرئيس، ولكن للأسف سوف تزال تلك الأبنية القديمة لاقامة كوبرى سمنود الحديث.وفى سمنود من البيوت المشهورة بيت أحمد البدراوى رئيس المشيخة بحارة الشيخ سلامة، وبيت أحمد الصعيدى بحارة الدوار، ومنزل الشعراوى نصير على البحر، ومنزل السيد عبدالعال رئيس مجلس مركزها، ومنزل مصطفى أفندى سبلة. وقد آلت هذه المنازل جميعا إلى ورثة أصحابها، وقد ظلت باقية على حالها، كما بقيت الأزقة والشوارع مسماة بتلك الأسماء.وتحوى مسنود فى رواية الخطط التوفيقية معملا للدجاج، أنشأه البدراوى الكبير، وكان يستخرج منه فى كل سنة مائة ألف دجاجة؛ ولكن هذا المصنع قد أتت عليه الأيام، ثم أعيد إلى مكانه بالذات، من عشر سنوات، وأسترد سيرته الأولى وسأنه القديم.وكان عدد المسلمين فى سمنود لذلك العهد الذى نروى عنه اثنى عشر ألفًا، فأصبح اليوم قرابة سبعة عشر ألفًا، وكان الأقباط فيها يبلغون خمسمائة، ولكنهم اليوم لا يبلغون على الأرجح أكثر من مائتين. وكان عدد الافرنج (الأجانب) نحو العشرين، ولكنه كان قد زاد فترة من الزمن، ثم عاد اليوم قريبًا من ذلك أو نحوه.آثارها القديمة وكانت سمنود تحوى آثارًا كثيرة، ولكن اليوم ليس فيها غير أثر يدعى «فدان الحجر»، لكثرة الأحجار الأثرية فيه، والتماثيل القديمة والنقوش الهيروغليفية التى ترجع إلى حضارة قدماء المصريين. وكانت بجوار هذا الأثر هضبة مرتفعة يقال لها التل، وكان أهل سمنود يقتطعون من ذلك التل الأثرى ترابًا لتسميد الأرض وتخصيب التربة، ولم يكن ذلك محظورًا فى ذلك الحين. وقد اغتنى خلق كثير من اقتطاع الأتربة من ذلك التل، إذ كانت تحوى أثارًا ونفائس من ذهب وفضة، فأصابوها لأنفسهم فيما حملوا من ترابه، ولكنه اليوم قد زال وأصبح مكانه أرضًا زراعية، وإن ظلت مشهورة باسم «التل» إلى الآن.وكان شيخ الناحية فى ذكل العهد هو المرحوم على بك البدراوى، وكان رجلا ذا نفوذ كبير، حتى لقد عهد إليه محمد على الكبير بجباية الضرائب. وكان واسع الحيلة، شديد البطش، فاقتنى أملاكا كثيرة، وأرضًا مترامية الأرجاء، بقى له منها ألف وسبعمائة فدان، غير النازل والدور، فأوقفها جميعًا على وجوه البر وسبل الخير، ولم يجعل لأولاده منها غير مرتبات محدودة تجرى عليهم. وقد عهد بهذه الأوقاف أخيرًا إلى مصطفى النحاس باشا، فأحسن إدارتها، ورد الحقوق إلى صاحبها، وقام عليها خير قيام.دار الرئيس ويعود تاريخ بناء الدار التى كان فيها مولد مصطفى النحاس وإخوته إلى عهد جده المرحوم الشيخ سالم النحاس، فهو الذى شيدها وجعلها واسعة الرحاب، فسيحة الأفنية، على طراز ذلك العهد وأسلوب عمارته. وهى لا تزال إلى اليوم حسنة الطلاء، مدهونة بالزيت، جميلة النقوش، وقد آلت الدار إلى ولده المرحوم الشيخ محمد النحاس والد الزعيم، فابتنى فوقها طبقتين زوج فيهما ولديه المرحوم محمد بك النحاس والأستاذ سالم النحاس. وهى إلى اليوم منزل العشيرة، ولها فى سمنود مقام كبير، وشأو عظيم، استمدته من مكان عميدها اليوم، الذى نبت منها أطيب منبت، ونشأ خير تنشئة، وأرسل اسم سمنود ذاتها مع مطار الشمس، ورفع ذكرها فى العالم بجملته. والده وصناعته وكانت سمنود إلى عهد غير بعيد مركز تجارة واسعة للأخشاب، فاشتغل المرحوم الشيخ محمد النحاس والد زعيمنا بهذه التجارة. ولم يكن تاجرًا كبير الثروة متسع النطاق، مترامى المعاملة، ولكنه كان مع ذلك غنيا باسمه الحسن، وشهرته النقية، وسمعته الطاهرة فى الأسواق، وهو أنه التاجر المستقيم، أو «التاجر الذى لا يكذب»، فوثق الناس به، وسكنوا إلى ذمته حتى لقد كان التجار الآخرون إذا جاءهم أحد يريد معاملتهم لجأوا إليه يسألونه رأيه فيه، فإذا ما شهد له أخذوا بشهادته ووثقوا برأيه. ولقد كان فى سمنود تجار أخشاب أكبر منه ثروة، وأوسع من متجره نطاقا، ولكنهم لم يصيبوا من حسن السمعة مثل الذى ترامى له، وتسامع الناس به، من أمر استقامته ونقاء ذمته، فكان مآل تجارتهم من بعدهم إلى زوال وفناء.وكانت والدته سيدة تقية، صالحة، قوامة، صوامة مزكية؛ كما كان والده، إذ كان أفق العشيرة كذلك، جوا طاهرا، تسوده العبادة، ويغمره التقى، وتراعى فيه الفرائض، وترفرف عليه أجنحة السكينة والدعة والسلام. وكانت التقوى فى آل النحاس مسموعة عنهم فى المدينة من قديم الزمن، والتمسك بالدين أول صفاتهم التى عرفوا بها فى المجامع والندوات.وكان لمصطفى أخ من أبيه وهو المرحوم أحمد النحاس، وخمسة أشقاء، قضى كبيرهم وهو محمد النحاس نحبه؛ فله اليوم من الأخوة الأستاذ سالم النحاس، ومحمود النحاس التاجر، وعبدالعزيز النحاس بك كبير المفتشين فى وزارة الداخلية، وله أخت وحيدة هى حضرة صاحبة العصمة السيدة زهرة النحاس، وكانت زوجا للمرحوم إبراهيم شوقى بك، نجل المرحوم إبراهيم فوزى بك محافظ القاهرة فى إبان الثورة العرابية. وكان قد وكل إليه يومئذ بحماية أرواح الأجانب فلم يرق فى الثورة دم واحد منهم، ولم يطل قتيل، فكان ذلك حقيقيا بفخار، حريا بأن يسجل له صفحة ناصعة فى كتاب الشهامة والوطنية ومنعة الجوار. وقد وجدت هذه السيدة الفاضلة عند شقيقها مصطفى أعز الحنان، وأكبر الحب، وأعطف الرحم، وأندى القربى، كما وجد أبناؤها النجباء، وحيد وإخوته، عند خالهم الأب الراعى، والعميد الحنان البر، والولى الكريم.وفاة أبويه وكانت وفاة والد مصطفى فى سنة 1920، بعد أن رعى مصطفى ولزمه وحنا عليه، إلى سن الأربعين، فلم يغادره يوم آذن الرحيل إلا وهو على طريق المجد مصعد، وفى أول النبوغ الوطنى متألق النجم، وفى سبيل الوطن مجاهد يسير إلى ربوة الزعامة بخطى فساح، وقد قبضت والدته بعد أبيع بثمانى سنين.ظروف مولد فى سمنود إذن، ذلك البلد الطيب، ملتقى الحضارتين، حضارة مصر الفرعونية، وحضارة مصر العربية، فى تلك الوحدة التى أنشأها التسامح الديني، والسهولة الإسلامية، ووصى بها صاحب الرسالة المحمدية قومه، كما رأيت فى خطبة عمرو بن العاص فاتح مصر، بسبيل منازل الربيع فيما تقدم لك فى سمنود الممرعة الخصيبة، وعلى شرف من أمواه النيل، ووسط الحقول النضيرة، والمروج المترامية.. كان مولد مصطفى النحاس، وذلك فى الخامس عشر من شهر يونيه سنة 1879، بل فى ذلك الأفق المنزلى الوادع الهادىء الذى ترف عليه السكينة، وتملأه أنفاس التقى والفضيلة، فتح عينيه على ضياء هذه الدنيا وليد من أطيب الأعراق، كتبت له العناية الإلهية أنه سوف يصبح الرجل العظيم الذى يتولى أمر أمة مجاهدة لأشرف ما جاهدت له الأمم فى هذا العالم، ويسير بها إلى غايتها شجاعا قويا جلدًا على الأحداث حتى يدرك النجاح لقد اختارت الطبيعة له أحضانها الحانية، ليعتنقها من الطفولة، ويمرح فى جنباتها صبيا يرتع فى الحقول، ويقفز إلى اليم ليتعلم السباحة، ويذهب عاديا فى المروج، ليس عليه من خفق الرياح، ولا زفيف الهواء، تحت ضياء الشمس يباكرها فى مثل نشاطها، ويودعها عند المغيب.أثر البيئة فى تكوينه كذلك جاء مصطفى النحاس من أهل القرى مثل سعد آتيًا، ليكون المولد صحيًا، من قلب الطبيعة التى أرادت به معنى من أكبر معانيها.وقد أرادت أن يكون مصطفى بالنشأة فلاحًا، ليناسب الأمة التى سيتولى قيادتها، وأعطته كل مزايا القروبين فى سراج الأفق، وسعة المحيط، وقوة التربة، وسلامة المناخ، ليدرك من الصفات الخلقية، والمنازع النفسية، التى تهيء له السبيل إلى البروز، وتفتح له الطريق إلى التفوق، وتعينه على التمرس بالشدائد، والتجلد للصعاب والمشاق، واحتمال كبار الأعباء والصبر على عظائم الخطوب.نشأ مصطفى فى تلك البيئة الطبيعية لكى تتناسب النشأة مع الحياة العملية التى ترتقبه، إذ كان قد خلق ليكافح، ويناضل، ويجاهد لكبار الغايت وعليا الأمثلة؛ فاقتضى ذلك كله أن يكون قويًا بالفطرة، سليم البناءة من الحداثة، مكتمل الخلق من الطفولة، حتى يظل على السنين شابًا مدخر القوى.وإذا كان قد أخذ ذلك كله عن الطبيعة التى ولد فى أحضانها، ليظل شبابه باقيًا، فقد أخذ كذلك عن البيئة المنزلية التى درج فيها الصفات والنزعات الكفيلة ببقاء شبابه، واستدامة قواه، والاحتفاظ بكيانه؛ إذ تأثر بمحيطه «العائلى»، والتقوى الغامرة للأفق الذى نبت فيه، وورث الاستقامة المكينة من أهله؛ فليس أحفظ للشباب من الاستقامة، ولا أعود من التقوى على سلامة الابدان.نشأ مصطفى فى ذلك البيت الطاهر، ودرج فى ذلك الأفق الساكن الوديع؛ فاكتسب الاستقامة، وحرص على الصلاة من العاشرة، حتى لقد سئل فيما بعد عن سر هذا التمسك الصادق بشعائر الله، فقال إنه حين انحدر به أبوه إلى القاهرة ليسلكه فى المدرسة، ذهبا من ساعتهما رأسًا إلى ضريح سيدنا الحسين رضى الله عنه. فلم يكد والده يقف به أمم المقام الطاهر حتى انبعث فى خشوع يقول: «لقد سلمت لك مصطفى!» فشعر الطفل فى تلك اللحظة بوحى خفى دب إلى نفسه، واستفاض فى مشاعره، وغمر حواسه؛ فظل يذكر تلك الوقفة الدينية الرهيبة طيلة الحياة، ويتمثل تلك الكلمات تدوى فى أذنيه على الأيام. ومنذ ذلك الحين لم يترك فرضًا، ولم يهمل ميقات صلاة؛ بل لقد كانت هناك جوائز ومكافآت للصلاة فى المدارس الابتدائية والثانوية، فأحرزها جميعًا، وفى ساذر أعوام دراسته.التربية المنزليةوكذلك بدت بوادر نفسه الصالحة الطاهرة قبل ظهور مخايل ذكائه، ورفعة ذهنه؛ لأن النشأة النفسية إنما تكون من عمل البيت، وصنع المؤثرات العائلية، وأفاعيل الوسط الأول والبيئة الخاصة. وعلى مبلغ هذه النشأة من القوة والنقاء والخير والطبيعة تكون الرجولة، ويروح المصير، ويتيسر النجاح، ويتواتى الفوز والتوفيق.بفضل التربية المنزلية، والتكوين النفسى الأول، ظهر مصطفى النحاس فى شبابه موضع الاعجاب، وتجلى فى رجلته محل الاجلال والأكبار، وفى زعامته الوطنية كاسب الإيمان ومكسبه، ورابح اليقين وموحيه، والمتجمل بالثبات والمنادى إليه، والرفيع النفس والنفوس ألفاف حوله، والمتغلب على خصومه وإن تكاثروا عليه، بقوة تلك المزايا التى استمكنت منه بفضل النشأة والتكوين.وخارج البيت لم تلبث استعداداته الذهنية أن ظهرت بادهة مدهشة كمواهب نفسه. ولم تكن فى سمنود مدارس كبيرة فى ذلك الحين، وإنما كانت ثم مدرسة لتعليم الفرنسية أنشأها قبطيان من أهل المدينة، وهى مدرسة صغيرة متواضعة، لا تكفل تعليما كبيرا ولا حسن تنشئة؛ ولكن الصبى مصطفى جعل يختلف إليها فى طفولته ليأخذ عنها المبادىء الأولية.قصة مكتب التلغرافوفى تلك الفترة، وقبل أن يبلغ العاشرة، ظهرت مطالع نجابته فجأة، وبوغت القوم بسرعة التقاطه للعلم، وخارق ذكائه، وعجيب حافظته. وقد ذكر كثير من الناس قصة عن طفولته وما كان منه فى مكتب التلغراف. وهى فى الحق قصة صحيحة غير مصنوعة، وإن لم يأت رواتها على الدقائق الصادقة فيها وحقائق التفاصيل، ونحن نوردوها هنا على وجهها الصحيح:فى ذات يوم شهد مصطفى وهو فى طفولته عبدالحميد حافظ أفندى المستخدم فى مكتب التلغراف يحرك أنامله على جهاز آلى أمامه، فينقل الجهاز إشارات معينة؛ فوقف يتأمل هذا العمل مليًا، وقد هاج حب الاستطلاع فى نفسه، فكاشف الموظف برغبته. وكان عبدالحميد صديقًا لأبيه، فدفع إلى الصبى بكشف طويل يحوى الحروف الهجائية وبجانبها مصطلحاتها التلغرافية، بين شرطة ونقطتين، أو نقطة وشرطة، ونحوها. فلم يكن من الصبى إلا أن أكب من لحظته على حفظها، واضعا كل ذهنه وقلبه فى استظهارها، حتى لم يكد يؤذن مغرب الشمس حتى جاء الغلام إلى العامل طالبا إليه أن يسمع عليه ما حوى ذلك الكشف من نقط وإشارات وشرطات.وما كان أشد عجب الرجل ودهشته لما قال الغلام، فراح يقول له: «كيف حافظتك قد وعت فى يوم واحد ما لا تعيه ذاكرة سواك فى شهر؟» فألح مصطفى عليه فى سماعه قائلا: «إذا تلخبطت فعاقبنى!» فأصغى الرجل إليه وراح هو يتلو ما حوى الكشف من أوله إلى آخره تلوة المستظهر الحفيظ العليم؛ فاشتدت دهشة العامل، وعجب لقوة ذاكرة الغلام الباكرة ووقدة ذكائه العجيب.وتسامح أصحاب أبيه بما جرى، فأشاروا عليه بأن يعنى بهذه المخايل الخارقة للمألوف، والمواهب النادرة فى الغلمة والأصبية، ناصحين له بأن يدخله إحدى مدارس القاهرة، ليتلقى العلم بانتظام، ويبرز ما وهبه الله من ذكاء غريب.فاستنصح الصحب فى أمره، واستشار أهل مودته فيما عسى أن يسلكه بشأنه. وكان فيهم صالح باشا ثابت وعبدالحميد أفندى حافظ وغيرهما؛ فكانت النصيحة أن يدخله فى إحدى مدارس القاهرة. وكأنما أحسن القوم يومئذ حيال هذا الغلام الذكى من الحداثة، القوى الذاكرة فى الطفولة، أنهم أمام ظاهرة غير مألوفة، وأن لهذا الغلام شأنًا فى غده، وهى النبوءة التى كثيرًا ما صحبت طفولة العظماء، واستبقت فى الصغر مصائر النوابغ والمتفوقين.فى المدرسة الناصرية وأدى البحث فى أى المدارس أصلح له إلى اختيار المدرسة الناصرية، وكانت يومئذ أكبرها شأنا، يختلف إليها أبناء اليسار وأولاد أهل الجاه والعظاميين، وكان ناظرها أمين سامى باشا، المربى المعروف.وكان خروج مصطفى من البلد الذى درج من المهد فيه، والوسط الناضر الذى كان يحتويه والأفق المنزلى الوادع الذى يكتنفه، إلى القاهرة، فى تلك السن الباكرة ـ منظرا فى البيت مؤثرا، وموقفا أحسبه لا يزال إلى الساعة منطبعا على صفحة خاطره، ولا ريب فى أن وادع والدته الحنون الرءوم له كان أليما، ولابد من أن يكون قد جرى مقترنًا بنصائح الأم ووصاتها للطفل الذى راح يغترب عن أفقه الصغير، ليعيش فى أفق جديد غريب عليه، وسط الحاضرة المليئة بالإغراء، المزدحمة بالمفاتن، الجديدة على طفل من الريف نقى الصفحة برىء الخاطر.وكان مجىء مصطفى إلى «الناصرية» فى الثلاثة الاشهر الأخيرة من السنة الدراسية، فأمر الناظر بامتحانه ليعلم أى الفرق هو لها الصالح المناسب؛ فظهر يومئذ أنه يليق للسنة الثانية، فسلك فى تلاميذها. وكان من المشقة عليه ـ ولا ريب ـ أن يجارى زملاءه وإخوانه فيها، وهو لم يدخلها معهم من بداية السنة؛ ولكنه جاء من الريف يحمل أول بوادر النبوغ، فلم يلبث أن تفوق على أقرانه جميعًا فى امتحان النقل إلى السنة الثالثة.وعاد مصطفى فى الإجارة الصيفية إلى سمنود، ليجد أحضان أمه المشوقة إليه، وتوق أبيه المتوسم الخير فيه. عاد إلى المروج النضرة والحقول الممرعة، وحرارة الشمس الساطعة، ومنظر النهر وأمواجه المتدفقة. ورجع إلى البيت الذى غاب أشهرًا عنه، وهو أبدا فى خاطره، كما هو فى أخلاد أهله؛ ففرح بهذه المتعة النفسية، واستراح لهذه اللقاءات اللاهفة.ولكن أمين سامى باشا لمح فى مصطفى تلك البوادر السراع المتوثبة، فخشى أن تخمد تلك الجذوة بإرهاقها، وتخبو حرارتها بالحمل عليها وإجهادها؛ فنصح بأن يسير الطفل فى الدراسة سيرة طبيعية. وأشفق والده عليه من تلك الطفرة الخطرة؛ فأشار عليه بالترفق، خيفة الإيغال، والتؤدة، لأنها أعون على شقة المسير. فأطاع مصطفى ورضى النصيحة، ودخل السنة الرابعة الابتدائية، فكان فى نهايتها أول الناجحين.وكان النظام المتبع يومئذ أن الناجحين فى نهاية السنة الرابعة ينتقلون مباشرة إلى الدراسة الثانوية، إذ لم تكن الشهادة الابتدائية قد تقررت بعد ونظمت لها الامتحانات النهائية العامة. ولكن فى تلك السنة التى كان مصطفى فيها موشكا أن ينتقل إلى الدراسة التجهيزية، وهى سنة 1891، ولم يكن الصبى قد جاوز الثانية عشرة، تقررت فجأة إقامة امتحان عام لنيل الشهادة الابتدائية. وكان ذلك مباغتة أعدتها الأقدار لتبرز ذكاء مصطفى، ونحابته وبوادر نجاحه، وقوة استعداده، وغزارة ملكاته؛ إذ لم يكن بين مصطفى وتأدية ذلك الامتحان سوى أسبوعين. ولكنها على قصرها لم تكن المهلة القصيرة حيال عزمه الوثيق، وصبره المكين، وجلده الطويل؛ فنجح فى الامتحان وبرز على رأس الفائزين فيه.كذلك أتم مصطفى الدراسة الابتدائية غريبا فى القاهرة، قادما إليها من صميم القرى. وكان فى الناصرية «بالقسم الداخلى»، أى يبيت فيها ويجد طعامه. وكانت الأقسام الداخلية فى معاهد العلم مواطن إغراء خطر، وفتون شديد السلطان على النفوس الساذجة، والصفحات النقية البريئة، بسبب اختلاط الطلاب، ومعيشتهم الاشتراكية، وكانت الناصرية ـ كما قدمنا ـ مدرسة أبناء الذوات، وأولاد الأغنياء النازحين من الريف، وقد اشتهر طلابها بالترف والنزوع إلى المرح، والاستجابة للهو والعبث، والاستماع إلى المفاتن والمغريات.مناعته الخلقة وفى المدرسة الابتدائية، ظل مصطفى فى هذه «المناعة» الخلقية من المغريات ووساوس الغرائز، وبنجوة من الجموع الذى ينزع إليه أكثر الولدان بسبب كثرة الاختلاط والاندماج؛ بل لقد اكتسب فيها ما لم يكن يألفه من قبل، وهو الصبر على الحرمان، والرضوان بالشظف، وإيلاف التخشن، والجلد على التقشف إذا ما اضطر إليه.فقد حدث يومًا أن كان الطعام المقدم إلى الطلبة فى القسم الداخلى فى الفطور حساء عدس، فعافه مصطفى ولم يمدد إليه يده، وحان طعام الغداء فوجد الخضر المقدم على المائدة كراثا مسلوقا فلم يذقه، وفى المساء كان العشاء فضلة ذلك الكراث فى الأوعية وبقاياه، فلبث ينظر مليًا إليه، وكان الجوع قد اشتد به؛ فلم يلبث أن «هجم» على «الكرات» فأكل منه، وأساغه، واستمر أه» مكتفيًا به.ومن ذلك العهد ألف الرضا بكل الأطعمة، فليس له «صنف» مخصوص، ولا لو من الأطعمة هو أحبها إليه.فى المدرسة الخديويةوانتقل مصطفى إلى المدرسة الخديوية، فأظهر فيها التفوق ذاته، والنبوغ بكل أعراصه ومزاياه وكان دخوله المدرسة فى قسمها الداخلى «بمصروفات»؛ ولكن أمين باشا سامى الذى أدرك نبوغه وعرف ذكاءه وتبين مواهبه أراد تشجيعه، وجعله قدوة حسنة لسواه؛ فطلب أن يبقى «مجانًا» هو ورفيق له يدعى محمد فهمى ياقوت، فسمح له بذلك.وفى المدرسة الخديوية، كان مصطفى فى الحق قدوة مثلى، ونموذجًا طيبًا للطالب العاكف على دراسته، المنصرف إلى العلم بكليته، العزوف عن النزق واللهو، المقبل على المطالعة والمزيد من المعارف. وقد أحبه رفقاؤه لمواهب ذهنه وعاطفته، وتأثروا فى رحاب المدرسة بشخصيته، واعترفوا جميعًا برقة حاشيته، ووفاء طبيعته، وكرم شمائله، وحبه الصادق للعدل، حتى ليذهب إلى حماية أى طالب يستهدف لأذى رفقائه، أو تساء معاملته فى حلقات اللدات والأقران.وكان مصطفى فى الخديوية وقورًا، وملامح وجهه تكسوها الرزانة والسكون، وإن أشعت عليها فى أكثر الأحيان ظلال ابتسامة حلوة ساجية، وإيماضة رفيقة هادئة. وكان متحدثًا فصيحًا، فإذا ما تناقش والصحاب فى مسألة من المسائل، نم وجهه وصوته وحركاته وإشاراته عن اتزان باكر، وتمكن من موضوعه، وفهم صحيح لكلياته وجزئياته.وكان كل همه فى الدرس والمذاكرة، ولم يكن ليشترك مع الأقران فى لهوهم ومرتهم، حتى إن نقاء حياته أرسل أفقا من الطهر والنقاء فيما حوله، وطهر جوه ومحيطه.وعقب دخوله المدرسة الخديوية شاء اللورد كتشز أن يأخذ من المدرسة عددًا من طلابها لإلحاقهم بالمدرسة الحربية، وكان مصطفى من بينهم؛ ولكنه كان يؤثر مواصلة دراسته والانتقال منها إلى المدرسة العالية، فرفض النقلة إلى المدرسة الحربية. وعند ذلك ظن الموظف الانجليزى الذى يحاول تنفيذ مشيئة المعتمد البريطانى أنه مستطيع أن يؤثر فى هذا الطالب الذى اجترأ على الرفض، من ناحية ضعيفة، يحسبها مطعنًا قابلا للحرج؛ فقال له إن كل تلميذ يتعلم هنا «بالمجان» لابد من أن يلتحق بالمدرسة الحربية ولكن مصطفى، فى شمم وعزة وشجاعة راح يجيب قائلا: «ما طلبت أنا المجانية عن فاقة، ولا سألتها عن عوز؛ ولكن ناظر المدرسة هو الذى شاء ذلك مكافأة للمتقدمين، وجزاء للمتفوقين.فاسقط فى يد المفتش، ولم يجر جوابا.فى مدرسة الحقوقوظل مصطفى متفوقًا على أقرانه فى المدرسة الخديوية، على رأس الفرق جميعًا، حتى أصاب «البكالوريا» وانتقل إلى مدرسة الحقوق، حيث المضطرب فسيح لبروز النبوغ، والمجال متسع أمام الذكاء الوقاد، والشخصية القوية من النشأة. فلم يلبث مصطفى أن ظهر بأول مقدمات «الزعامة»، ومطالع قيادة المجاميع. وقد ظل على تفوقه أول فرقته فى جميع سنى الدراسة، وهو البارز على رأس إخوانه، الظاهر وسط الحلقات، حتى أحرز «الليسانس» وكان أول الناجحين.مطالع صفات الزعامةوكانت بوادر زعامته فى هذه الفترة الباكرة من حياته، بسبيل مصير طلاب الحقوق.وخريجيها إذا ما فرغوا من دراستهم القانونية؛ فقد وقف مصطفى النحاس يومئذ موقفًا رائعا من أمر هذا المصير وسبيله، وأبدى من الرزانة والرصانة والثبات على الحق ما كان مقدورًا له أن يبدى فى مجال السياسة بعد ذلك، ومواقف الوطنية الصادقة، حتى لم يعد عن ذلك الأمر إلا وهو الناجح الموفق المنتصر.وتفصيل ذلك أن خريجى الحقوق كانوا يومئذ يعينون «كتبة» فى النيابات بمرتب شهرى لا يتجاوز خمسة جنيهات، وكان ذلك الإجراء سوء تقدير لهم، ووضعهم فى غير مواضعهم، وإنزالهم فى خدمة القانون دون منازلهم الخليفة بهم. فلم تكد نتائج الامتحان النهائى تظهر، وتعرف أسماء الناجحين فيه، حتى دعا مصطفى أفراد فرقته الذين نالوا الليسانس معه، إلى حفلة أقامها لهم فى القناطر الخيرية، فجاءوا متوافين إليه ملبين.وحين اكتمل عقدهم نهض مصطفى فيهم قائلا لهم إنهم بنيلهم إجازة الليسانس قد أصبحوا من رجال القانون فى البلاد، وإنه من الجرم أن يقبلوا وظائف كتبة فى النيابات براتب خمسة جنيهات. فقال قائلهم: «وماذا نصنع إذن؟» قال: «أريد أن نقاطع الوظائف الحكومية، ونخوض معترك الحاية العاملة أحرارًا طلقاء المشيئة غير مقيدين».فاستقبل فريق منهم الفكرة راضيًا محبذًا، على حين لزم فريق الصمت وأطالوا السكوت. فعاد الزعيم الشباب يقول: «أما من جهتى فإننى أرفض الدخول فى هذه الوظائف من الوجهة المالية فإذا كان فيكم من تضطرهم حالتهم المالية إلى التوظف وهم كارهون، فليعلنوا ذلك من الآن، فنحلهم من الاشتراك معنا. فإن ذلك خير من أن ينشقوا علينا بعد أيام، فيعرقوا علينا سير حركتنا، ويفسدوا علينا تضامننا». فقال أربعة منهم إن ضيقهم المالى يكرههم على قبول هذه الوظائف صاغرين. فقال الزعيم الشاب المتحمس لفكرته. الحريص على كرامته: «هذا حسن، فليتحد الباقون، وليتناصروا، وليكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا».وما لبث نبأ هذه الحركة أن اتصل بولاة الشأن المصريين والانجليز، فخشوا العاقبة وعهدوا إلى ناظر مدرسة الحقوق بأن يدعو مصطفى النحاس إليه فيبحث معه الأمر فى رفق. فلما دعاه الناظر ذهب إليه، ولكنه لم يكد يدخل عليه حتى وجد حوله وكيل المدرسة وبعض الموظفين الانجليز، ومن بينهم مندوب من قبل دار الوكالة البريطانية.وراح القوم يسألونه عن الباعث الذى بعثه هو وزملاءه على القيام بهذه الحركة، فبسط لهم الأسباب فى لهجة الجد والحزم والغضبة الصادقة للكرامة، ولما فرغ من قوله وهم مرهفو الأسماع له، انثنوا يقولون له: «وماذا تريد أنت لكى تكف عن دعوتك هذه؟!».الأنفة من المساومةفقاطعهم قائلا فى حماسة الأبى المترفع: «لست أبغى شيئًا لنفسى خاصة، ومهما عرضتم على زملائى فإننى شخصًيا لن أقبل التوظف فى النيابات، وإنما الذى أطلبه لإخوانى هو أن يعينوا فى وظائف «مساعدى نيابة»، بمرتب خمسة عشر جنيها فى الشهر». فقالوا: «إن هذا الطلب صعب التحقيق، إذ ليس يتيسر الترقى بهم إلى وظائف مساعدى النيابة دفعة واحدة».فجعل مصطفى يناقشهم فى ذلك وهم يناقشونه طويلا حتى أقنعهم برأيه، وألزمهم وجهة نظره. فارتضوا تعيين الخريجين فى وظائف «معاونى» نيابة بعشرة جنيهات فى الشهر.وكذلك انتصر مصطفى ورفع من شأن إجازته، ونجح فى زعامته الباكرة ومطالع قيادته، ووفق فى الدفاع عن الحقوق الجماعات، بقوة يقينه، وجاذبية شخصيته، ورفعة نفسه عن الصغار والمادية، ونفاره من المساومة، ووقوفه موقف الشهامة والكرامة والإباء.صورة مصغرة من زعامتهوكذلك بدرت نزعة الزعامة فى نفس مصطفى وهو فى العشرين أو قرابتها. وقد اقتضت منه الزعامة الباكرة يومئذ الوقوف بجانب الحق، فوقف بجانبه، رافع الرأس، قوى المنطق، باده الحجة، بل لقد أريد على الكف عنها، بالمساومة والإغراء؛ فأبى الإذعان إلى ما أريد عليه، فكانت تلك صورة مصغرة من زعامته الوطنية حتى تواتت له الظروف المهيئة وحان مطلعه على رأس الأمة ليقودها بتلك الزعامة الحريصة الحفيظة النزيهة ذاتها، إلى ساحة الجهاد، وميدان الفوز والنجاح.وقد رفض وهو قائم فى ذلك الموقف الخليق بالإعجاب، دخول الوظائف، وكان دخولها يومئذ مرمى آمال الشباب، وغاية أماني الطلاب. رفض الوظيفة، ولم يكن أهله أغنياء مكثرين حتى يتستغنى عنها الاستغناء كله؛ ولكنه كان أبيا على المساومة، بعيد مطارح الأمل، قصى مسافة الأماني، يحس فى أعماقه أن الميدان الحر أو أمْ له، وأصلح لمثله، وأكثر إبرازًا لمواهبه.رفض مصطفى وظائف معاونى النيابة، وأبى راتب عشرة جنيهات فى الشهر؛ ولو أنه ارتضى ذلك وقبله، لأعطى أكثر من ذلك وأكبر أمدًا، ولكن بثمن زعامته الأولى فى حلقة الشباب، وبتضحية الفضيلة النامية فى نفسه، الثجاجة من منابع إحساسه، الغزيرة المورد والمعين.لقد كانت عشرة جنيهات فى الشهر يومئذ راتبًا حسنًا، يقر عين كل شاب، ويرتض أمانيه؛ إذ لم تكن فى ذلك الحين أزمات اقتصادية، ولا ضوائق متراخية الآماد، ولم تكن ثم قيود مالية على العلاوات، وحد من الترقيات، كما ترادف ذلك وتكاثر فى العهود الأخيرة، حين اشتد الزحام على الوظائف، وكثر على الحكومة وخدمتها الزمر والحشود وجموع المتهافتين.الحرص على الكرامةوقد تجلت فى مصطفى النحاس على نهاية هذا الدور غيرته الصادقة على «الكرامة»، وأنفته من الصغار، والتنائى عما يخدش العزة؛ فراح يستفتح حياة العمل فى الميادين الحرة عيوفًا، كريمًا، قوى النفس، لا ينزل عن كرامته، ولا يترخص فيها، ولا يقبل التساهل فيها والتفريط.لقد كانت تلك بداية صالحة موائمة لما كان ينتظر أن يكون من أمره فى الغد القريب، وكانت تلك نشأة قوية رفيعة تخلق بشاب أعدته العناية الربانية لكى يمسك بزمام الزعامة فى أمه تصبو إلى أعز غاية فى هذه الحياة، وهى «الحرية»؛ وتجاهد لأشرف مطلب، وهو «الاستقلال» فلننتقل إلى دور الحياة العملية لنرى كيف سلك مصطفى فيه، وماذا كان من أمره، قبل أن يؤدى رسالته الوطنية إلى الناس.